هل سنقول باي باي نتنيا
بعد قليل سيصون الكنيست الإسرائيلي على الحكومة المقدمة من قبل تسعة أحزاب إسرائيلية، لتخلف الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو او ملك إسرائيل (بيبي) كما يحب أنصاره ان ينادوه. نتنياهو ومهما كان رأينا به، الا ان طول مدة بقاءه رئيسا للوزراء في بلد لم يعتاد على بقاء زعيمه كل هذه المدة، والنجاحات السياسية التي حققها على مستوى المنطقة والعالم، بالإضافة الى النجاحات الاقتصادية ونجاح إسرائيل في تجاوز محنة الكورونا، بصورة ملفتة. يدعونا الى التأمل والتكيف وإدراك حقيقة ان الشعوب تحب التغيير وتطالب به، حتى وان اتصف زعيمهم بحنكة سياسية وحقق نجاحات كبيرة كما في حالة نتنياهو. أي نعم دون التغيير، يعني الجمود وبالتالي في عالم يطالب بالجديد، يعني التخلف والنكوص الى الوراء.
ورغم ان ما قد يحدث بعد قليل مشكوك بنجاحة وذلك لأسباب أيديولوجية، أي توجهات أطراف التحالف القائم. فهي تضم من اليسار والوسط واليمين بالإضافة ولأول مرة طرف عربي اسلامي بدونه ما كان يمكن إقامة التحالف. الا ان الخطوة تقول لا بقاء لاحد مدى الحياة وكل زعيم يجب ان يقر بانه لن يبقى مدى الدهر، حتى لو كان من طراز نتنياهو، بإنجازاته وتاريخه وتاريخ عائلته في تقديم التضحيات لبلده.
والمناسبة، أي مناسبة التغيير الوزاري الإسرائيلي، تعود بنا الى قيام الشعوب بتغيير قادتها رغم ما انجزوه اثناء قيادتهم لبلدهم. ولعل أبرز مثال على ذلك، هو قيام الشعب البريطاني بالتصويت لحزب العمال بعد الحرب العالمية الثانية وعدم التصويت لحزب المحافظين وزعيمه تشرتشل الغني عن التعريف. والشيء بالشيء يذكر، ان السيد ونستون تشرشل حينا عزم على المشاركة في المفاوضات المقررة في يالطا مع زعيم الاتحاد السوفياتي ستالين والرئيس الأمريكي ترومان، اصطحب معه زعيم المعرضة اتلي، وحينما ابدى ستالين عجبه من احضار زعيم المعارضة معه، قال تشرشل، بلدي تجري انتخابات قريبا، ولا اعلم قد تفوز المعارضة، ولذا طلبت من السيد اتلي الحضور لكي يكون عالما ببواطن الأمور وما يحدث هنا. وبالفعل فاز السيد كليمنت اتلي بعد الحرب مباشرة رغم كل إنجازات تشرشل في الانتصار على النازية. والمثال الأكثر غرابة، حينما قدم جمال عبد الناصر استقالته بعد هزيمة حرب الأيام الستة، ورغم فشله فيها وفي حرب اليمن وفي تحقيق أي انجاز مشهود على مستوى الاقتصاد والتنمية، الا ان الجماهير خرجت او أخرجت لتتمسك به، والأكثر غرابة ان من حقق للمصرين وللعرب انتصارا او إنجازا سياسيا، خرجت الجماهير لتحتفل بمقتله في كل بلدان بني يعرب.
كل تغيير وانتم بخير
الهدر في الجهد القومي
يا ترى كم نحن جادون في مسعانا للحفاظ على ذاتنا القومية وما يميزنا عن الاخر من لغة وتراث وتاريخ وغيرها من الصفات التي تدل على هذه الذات؟
من الصعوبة ان لم يكن من الجرم ان تبتدئ امتنا (سمها ما شئت اعتقد ان سمها ما شئت سيكون اسمها الجديد) من الصفر مع كل كاتب او مفكر او شاعر او معلم الب بيت او قومي همام جديد ، انه حالنا المؤسف. ان يعمل البعض من اجل اللغة وتطويرها ونشرها، وعند محاولة التطبيق ياتي البعض ويطالب بوضع اشتراطات تلغي كل انجازات العمل وتحوله الى هباء منثورا كما حدث بعد منح الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية وبعد تطبيق التعليم بالسريانية في اقليم كوردستان. يا ترى كم لجنة لغة ومركز لنشر اللغة ومجمع لغوي تم اقامته وذهبت توصياته ادراج الرياح، رياح الطائفية والرغبة في تعريبنا . يا ترى هل نحن جادون ام نحاول ان نقف في طريق من يتعلم هذه اللغة؟ اني اجده من المعيب ومن نكران جهد ونكران الذات ايضا، الغاء كل الجهد الذي بذل في اورميا (ايران من قبل اللجنة الادبية للشبيبة الاشورية) وما بذل من قبل النادي الثقافي الاثوري المركز العام في بغداد، وما بذل منذ تطبيق التعليم بالسريانية في اقليم كوردستان، والعمل مرة اخرى من الصفر، لان البعض قد صحى متاخرا وادرك اهمية اللغة، انه هدر في جهد الامة، اي نعم لا بد من التطوير، ولكن لا للبدئ من الصفر. ان لهجة اورمي ولهجة التياري ولهجة صبنا والقوش وعنكاوا وشقلاوة وبغديدا وطورعابدين، هي لهجات من لغة واحدة، وفي الاخذ باللغة يتم اخذ الانتشار، والرغبة في التعلم، ومدى النشر، وقد كان للهجة اورمي وسلامس الاسبقية في النشر، ولكن بمرور الزمن تم تطعيمها بما في اللهجات الاخرى من كلمات اصيلة، ومن مرادفات ضرورية، ومن تصريفات زمنية وسيستمر هذا التطعيم والتطوير ان بقت لغتنا لغة التعليم. ان لغتنا لغة حية لانه يتكلمها اناس كثر ويتفاهموا بها، بعكس من ينادي للعودة الى اللغة المسماة الادبية او العتيقة، والتي لا نستعمل تصاريفها مطلقا، وكذلك بعض مفراداتها والتي يتواجد مثيل لها في اللغة المحكية، وكمثال ما الداعي لاستعمال كلمة اوي ܐܒܼܝ بدلا من بابي ܒܒܝ ما الداعي لاستعمال تصرف اتقطل ܐܬܩܛܠ بدلا من بشله قطيلا ܦܫܠܗ ܩܛܝܠܐ وهو المستعمل ويفي بالغرض ولا ينقص من جمال اللغة، ومرة اخرى ان اللغة الادبية او العتيقة ستبقى الخزين للغتنا الحية حين حاجتنا لتصريفات وتسميات حديثة. هناك معارك ليس لها من داعي وسبب، لانها سابقة على زمنها، فكل شئ سيأتي رويدا رويد، سيأتي يوم سيكون هناك ابحاث حول كل لهجات شعبنا، لانه امر ضروري واغناء لثقافتنا وتعزيز لوجودنا (التقيت واستعمت لاثنين من البحاثة الاسرائيليين ممن يبحثون في بعض لهجات شعبنا، يا ترى اذا كان لاسرائيليين اباءهم او اجدادهم تكلموا لغتنا هذه الرغبة اذا كم سيكون لدى ابناء شعبنا) . وسيكون تعلم لهجة ما بحد ذاته امر جميل وفيه الكثر من الرغبة في وحدة الاجزاء المختلفة. ومن المعارك المسبقة والتي لا معنى لها توحيد الخط الذي لا داعي له، فلنا ثلاثة خطوط، السطرنجيلي او الموحد والشرقي والغربي، ويمكن تعلمها بسهولة، لا بل يمكن توزيع تعلمها حسب المراحل، كان يتعلم المشرقيون الخط الغربي وبعض التصريفات الغربية وصورة الحركات بعد الصف الثالث المتوسط مثلا، ويقوم الغربيون بتعلم الخط الشرقي وبعض التصريفات الغير الموجودة في الغربي وصورة الحركات بعد المرحلة التاسعة، ويكون تعلم احد الخطين والخط الاسطرنجيلي ملزما للطرفين منذ البدء. يبقى الاجتهاد في تغيير الحرف اصلا واللجوء الى الحرف اللاتيني، باعتقادي ان الجهد الذي يؤخذ في تعلم المعنى الجديد لكل حرف لا تيني قد يساوي الجهد المبذول لتعلم الحرف السرياني (الخط) ، الا انه في المسائل الحديثة من الكومبيوتر وغيرها من الاجهزة قد يكون من الصعوبة استعمال حرف يتجه من اليمين الى اليسار، رغم اننا نستعمل العربية في ذلك. من هنا ومع اخذ تجربة بني اسرائيل اليهود في الشتات في موضع الاعتبار، نرى ان الاهتمام باللغة يجب ان يكون جهدا جماعيا، وان لا يكون ضحية الانقسامات التسموية والطائفية وحتى الحزبية، اي نعم ايها السادة في بعض الاحيان كان ضحية للانقسامات الحزبية ايضا.
ما الذي يجعل ظاهرة الشعبوية تحقق الانتصارات؟
ظاهرة السياسة الشعبوية والتي تمثلها احزاب سياسية يمينية حاليا، تحقق انتصارات غير متوقعة في المانيا وفرنسا، وادت الى دعم خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي وفوز دونالد ترامب بالرئاسة الامريكية ولاول مرة من خارج الطقم السياسي، حيث ان سجل الرئيس المنتخب ترمب يخلوا تماما من تسنمه اي منصب حكومي او منتخب له مثل عضوية البرلمان او مجلس الشيوخ اوحاكمية ولاية ما.
يمكن القول اختصارا ان بروز ظاهرة الشعبوية، هو نتاج انفراط الثقة بالنخبة السياسية والاقتصادية، فالنخب السياسية تميل الى تحليل الظواهر ومحاولة ايجاد حلول بعيدة الامد لاي ظاهرة سلبية او مواقف سياسية سلبية، فيما يحاول الشعبويين، اللجوء او الادعاء باللجوء الى حلول جذرية وسريعة. والشعبوية هي نوع من الخطاب السياسي الديماغوجي يدغدغ عواطف الناس ويحشدهم لكي يقف بالضد من كل من يعارضه.
ومن المفيد ان الشعبوية ليست حكرا على نظام معين او بلد معين، فالانظمة العروبية كانت في غالبها من هذا النمط، فهذه الانظمة دغدغت مشاعرالناس، بتحقيق انتصارات كبيرة وعظيمة. ولا يحتاج الامر الا اطاعة القائد. او اعتناق ايديولجية معينة. والشعبوية اتسمت بها ايضا المرحلة الاولى من الثورات الاشتراكية، حيث دغدغت عواطف الناس بخلق عالم خالي من التماييز الطبقي. ولعل الرئيس الفنزويلي شافيز وخلفه كانوا خير مثال للشعبوية في بقية دول العالم الثالث.
وكما سبق ونوهنا فان الشعبوية موجودة في الغرب المتمتع باستقرار اقتصادي وسياسي مستمر منذ الحرب العالمية الثانية، وان شهد خضات معينة الا ان هذه الخضات لم تهز النظام ابدا. ولكن الشعبوية تأتي من ناحية لتضخيم هذه الخضات الاقتصادية او مشاكل سياسية وتمنحها بعدا تأمري، لكي تبرر لنفسها الدور الانقاذي الذي تدعيه.
الخلاف في الشعبوية بين النظم التي تتحكم او التي تحكمت في منطقة الشرق الاوسط والدول التي لا تمتلك تقاليد ديموقراطية، وبين مثيلاتها في الدول الديمقراطية، فارق كبير في اسلوبه ونتائجه. فدول الشرق الاوسط ابتلت بظاهرة الانظمة الشعوبية منذ انقلاب 23 يوليو (تموز) في مصر وبروز ظاهرة جمال عبد الناصر، واعتماده على الخطب المثيرة لمقارعة الاعداء المفترضين، لا بل افتراضه الاعداء على اسس دينية وقومية. فالشعوبية هنا ادت الى تسليم الامر كله الى القائد الشعبوي، هو الذي يسن ويشرع ويقرر ويحكم ويقاضي. هو من يحدد الوطني وغير الوطني، لا وجود للرأي الاخر بحجج مختلفة ولعل اولها المرحلة المصيرية ومحاربة الاعداء. وخلال سنوات طويلة امتدت خمسون سنة تقريبا، تلونت وتطورت وتسلحت الشعبوية باسلحة مختلفة، اعلامية واستخبارايتية وامنية. مما ادى الى تمكنها من خنق اي دور او راي لاي شخص ثاني، مما اصاب المنطقة بالعقم، وسد ابواب التطور امامها. في حين ان الشعبوية الحالية او ما بعد الحرب العالمية الثانية في الغرب والتي تمثلت في بعض الاحزاب اليمينية، وفي اميركا والتي تمثلت او ابتدأت برونالد ريغن، انها شعبوية شعاراتية، تخضع لمتطلبات مصلحة الدولة وللمساومة السياسية بين الكتل المختلفة، اي انها لا تفرض رايها او خططها على الجميع. وبالتالي فان نتائجها تكاد ان تكون غيرمنظورة الا في زيادة الهمم ورفع الشعور الوطني، امام حالة من الانهزام المفترض او المفروض نتيجة تجربة سياسية او اقتصادية فاشلة. وبالعودة الى رونالد ريغن، فان فترة حكمه كانت ردا على تانيب الضمير الذاتي استفحل بعد حرب فيتنام ونتائجها. ولقد حققت فترة ريغان لامريكا الانتصار الحقيقي على الذات ومن ثم على اغلب القوى العالمية، بحيث تم اعادة وترسيخ دور الولايات المتحدة الامريكية، حتى ان ما انجزه كلنتون وبوش الابن في السياسية الخارجية كان يعتاش ويتسمد قوته الحقيقة من مرحلة ريغان التي امتدت على مدار ولايتيه و ولاية جورج بوش الاب.
ولكن عن اي انتصار بعد هذا نتحدث، وخصوصا في تجارب العالم الثالث. بالحقيقة في العالم المتقدم هناك انتصاران، وهو النجاح في الانتخابات ومن ثم استلام السلطة، ومن ثم الخضوع لمتطلبات المصلحة الوطنية العليا، والتي يحددها مختلف الاطراف والامناء عليها هم الخبراء والموظفون الدائمييون ذو التجربة والمستندين الى دراسات وتجارب سياسية كثيرة. كمثال دونالد ترامب الذي رأيناه ورغم رفعه شعارات معادية او فسرت بانها معادية للاجانب، ومعادية لاوباما كير، فانه اول خطوة خطاها، كانت حذفه رابط خطابه حول المسلمين كاشارة لعلامة التغيير وتصريحة بان مشروع اوباما للتامين الصحي يمكن ان يتم تطويره وليس الغاءه. هنا ان الشعوبية تستغل شعور الجماعات بانها مغيبة عن القرار السياسي وان هذا القرار يتم تهيئته في غرف خلفية لا يعلم احد ما يدور فيها. وهذا ناتج في الغالب عن الاعلام السهل الذي صار هو الملجاء لاغلب الناس ممن يريد المعلومة الجاهزة. ولكنها تعمل في اطار المصلحة العليا وتحافظ على الامن القومي، الذي لا يعني لديهم الجيش والحدود، بل الانسان والاقتصاد ومن ثم الحدود.
اما الانتصار الشعبوي في دول العالم الثالث، فيتأتي من افتراض اطراف معينة، انها الوحيدة التي تمتلك الروح الوطنية التي لا غبار عليها، وكل الاخرين اما عملاء او خونة او ذوي مصالح خاصة. ومن هذا الافتراض، يتم البناء على ان التغيير يجب ان يكون بتغيير السلطة من خلال استلامها وتسخيرها للشعب. واولى الخطوات تكون بقرارات تفسر لصالح الشعب مثل زيادة الرواتب الغير المحسوبة، والتي يهلل لها البعض والتي تاتي بالتضخم وانخفاض اسعار العملة، ولا تنتهي الا بالديون وسدادها والتي تحتاج الى ديون اخرى والدوران مع عجلة لا تنتهي بل تزيد. ومن ثم تهيئة الشعب للمعركة المقبلة ولا احد يعلم اين ستكون، لان الوطن والثورة مهددة، وتغييرات دراماتيكية في التوجهات السياسية الخارجية.
اذا ظاهرة الشعبوية والخطاب الشعبوي تحقق انتصارات معينة، ولكنها في الغرب مسيطر عليها، ويمكن ان تتأقلم مع المصالح العليا للبلاد، لان هذه البلدان تحكمها مؤسسات عديدة وليس مؤسسة واحدة. بما يعني ورغم ان الظاهر ان الرئيس كمثال الرئيس الامريكي يمتلك صلاحيات كثيرة جدا، الا ان الامريكيين يدركون انه لا يحكم وحده، بل معه الكونكرس بمجلسيه والمحكمة العليا والولايات واللوبيات والمؤسسات الاقتصادية والصناعية والنقابات العمالية. كلها لها دور لانها تمثل القوى العامة للشعب الامريكي. اما في العالم الثالث فانها تؤدي الى حكم الفرد، وقد تصل الى ان الفرد يمكن ان يتخلص من رفاقه وممن حوله، لانه صار السلطة والسلطة صارت هو.
السنة الاكدية البابلية الاشورية………
لفت نظري خبر عن تحضير منظمات شعبنا في شيكاغو للاحتفال بالسنة البابلية الاشورية. ان الاحتفال بالمناسبات القومية، هو محاولة لجذب الانتباه للهم القومي ولزيادة وتقوية الروابط التي تربطنا البعض الى الاخر. وهو من ناحية اخرى تاكيد دائمي على وحدة الشعب الاساسية امام الاختلافات اليومية والتي تحدث نتيجة مصالح متعددة. فباحتفالنا براس السنة نوجه رسالة مشتركة الى كل ابناء شعبنا باننا واحد مهما اختلفت بنا دروب السياسية، والى الاخر لنقول له اننا هنا، وعلى الجميع الادراك باننا موجودين كما ان مصالحنا وحقوقنا يجب ان تصان.
ولكن لاننا شعب يغلب عليه التعنت والمجابهة لاسباب صغيرة وتافهة احيانا، فكثيرا ما استغلت مناسباتنا القومية، لزرع المزيد من الشقاق والتنافر. لا يخفى على احد ان حركة شعبنا القومية تحت التسمية الاشورية، كانت السباقة في تاكيد ونشر الاحتفال بمناسبات قومية، لتحقيق الوعي المشترك. قد تكون هذه الحركة قد اخطات في حساب بعض الامور، ولكن بالتاكيد انها كانت ترمي لهدف سامي وليس لزرع التشتت. وبالتالي، لا يمكن لومها لانها تسارعت، فهذا كان ايمانها حينذاك وما كانت تمتالك اله لرصد الزمن لتدرك ان الاختلافات ستكون حادة لاسباب لا منطقية، ولكن يمكن الاستفادة من الاخطاء حيثما وقعت بتصحيحها وتعديلها والبناء على المواقف الصحيحية التي اتخذتها.
عندما نحتفل بالسنة القومية لشعبنا، نذكر سنة محددة، وهذا التاريخ افتراضي، فاي تاريخ لم يسجل منذ حدوثة واستنادا الى تاريخ سابق موثق، فسيكون افتراضيا. وحتى السنة الميلادية التي نحتفل بها يكاد الجميع يجمع على انها افتراضية، وتختلف عن تاريخ مولد السيد المسيح بسنتين او اكثر. فما بالكم بسنة نحن نعتمد فيها على سنوات ميلادية، وتبعد عنا بالاف السنين. كل هذا لا يلغي اهمية السنة القومية وضرورتهات في خلق الوعي الجمعي بالوحدة من خلال احتفال بهيج يوجه رسالة للكل بحضور شعبنا الدائم في هذه المعمورة رغم كل ما لحق ويلحق به. ولكن علينا ان ندرك ان تحقيق المصالح وتحقيق الاهداف هو الاهم وهو الموجه لكل ما ننوي عمله.
ولاننا لا نستعمل تاريخنا القومي في الحدث اليومي، كمثال، لا نقول انني ولدت في 1/4/6702 كمثال او ان اقول ان لدي موعدا مهما في اليوم الفلاني مستعملا التاريخ القومي، لانه صار امرا عاديا اننا بتنا عالميا نستعمل التاريخ الميلادي كاستعمال مفهوم من قبل الجميع رغم افتراضيته. ان استعمالنا لهذا التاريخ هو فقط في يوم الاحتفال، وان عدم ذكره لا يؤثر على مدلول المناسبة ولا على بهجتها. وعليه اقترح الغاء استعمال ذكر تاريخا محددا للسنة القومية، ولن يعيب هذا الامر احدا، فنحن نحتفل بمناسبة احتفل بها اباءنا واجدادنا ولقدم هذا الاحتفال ومروره بعصور مظلمة فقد فقد مدلوله التقويمي وتحول الى رمز لعيد فقط.
ان ابتعادنا عن الامور التي قد لا نمتلك عنها اجابات حقيقية هو امر مهم لترسيخ مفهوم عقلاني للعمل القومي بعيدا عن المزايدات العاطفية. كل امة وكل شعب يمتلك قصصه وملاحمه القومية، والكثير من الاحداث في تلك القصص والملاحم هو من الخيال، ولكن هذه القصص وهذه الملاحم لا تكون سببا في خلق الانقسام والتشرذم، بل تكون سببا في شد اواصر التقارب والتلاحم بين ابناء الامة الواحدة. وخصوصا في الاوضاع التي تجابه فيها ظروف مصيرية حقا، تهدد وجودها وبقاءها كامة وشعب حي.
انه اقتراح اقدمه للجميع، اقتراح لن يؤثر سلبا في رمزية المناسبة ولا في الاهداف التي نرمي الى تحقيقها، انه اقتراح لكي لا نقع في مطب التبرير والاتيان بامثلة وامور غير حقيقية لكي نحاول ان نفسر ما لا يمكن تفسيره. ان نحتفل بالسنة البابلية الاشورية، او باحتفال اكيتو، بدون ان نذكر السنة. فهذه السنة هي استنتاج قد يكون منطقيا، ولكن بالتاكيد ليس واقعيا وليس حقيقيا، هذا بالاظافة الى ما يخلقه من سؤ فهم لدى ابناء شعبنا. فلنحتفل براس سنتنا دون ان نحدد عددا محددا، فالاحتفال كان ساريا كل تاريخ شعبنا وباساليب مختلفة وبسيطة احيانا، كمثال ما كانت امهاتنا تفعله حينما كن يلصقن قبضة من الحشائش المنزوعة من الحقول بابواب البيوت تيمنا بالربيع وبنيسان. فهن كن يحتفلن براس السنة على طريقتهن ودون ان يذكرن او يعرفن السنة التي هن فيها.
اللوبي
منذ سنوات كنت اقراء تبريرا باكستانيا لقيام الولايات المتحدة الامريكية بدعم وبتطوير علاقاتها بالهند، فكان التبرير ان اللوبي الهندي القوي في الولايات المتحدة الامريكية هو السبب. وعندما نقراء تبريرات الدول العربية في هذا المجال ودعم الولايات المتحدة لاسرائيل نواجه نفس الاجابة وهو قوة اللوبي الصهيوني او اليهودي هناك. ونحن نعلم ان الولايات المتحدة الامريكية كانت الداعم الدائم لباكستان ومزودتها الوحيدة بالاسلحة والدعم المالي السخي، وخلال هذه الفترة ورغم تواجد جالية باكستانية قوية في الولايات المتحدة الامريكية الا ان الباكستانيين اعتقدوا ان الدعم الامريكي لهم سيستمر ولم يعتقدوا ان الاتحاد السوفياتي سينهار وتنقلب التحالفات وتتغيير الموازين. ولكن الهند ورغم علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي، الا انها لم تترك الساحة الامريكية خالية فعملت بجد لكسب المؤييدن لها ولطروحاتها السياسية وطرح نموذدجها السياسي الاقتصادي كاحد النماذج الناجحة في العالم. فكان نصيب باكستان تراجع الحضوة وتقدم الهند. كل العرب يدركون ما للوبي من تاثيرات ايجابية لاسرائيل، واللوبي هو نشاط مقبول وقانوني في الولايات المتحدة الامريكية، ولقوة اللوبي اليهودي الداعم لاسرائيل ولكونه يظم امريكيين من غير اليهود في صفوفه نتيجة القيم الدينية المشتركة او نتيجة للتعاطف مع اليهود جراء معاناتهم التاريخية او حتى اعجابا بتجربة اسرائيل الديمقراطية التنموية في منطقة قاحلة من الممارسات الديمقراطية والحريات الدينية والسياسية والابداع التقني والتطور الاقتصادي. ولكن العرب لم يفكروا ولم يتمكنوا من اقامة اللوبي الداعم لخططهم السياسية لانهم لم يمتلكوا في يوم من الايام خططا ولا تجارب يمكن ان تسوق كنماذج للتعايش وللتطور وللحريات، فالعرب حالهم حالنا ليس لديهم غير ماض يدعون انه ماضي حضاري كبير، ولكن الماضي لايجلب امتيازات ولا اموال ولا اعمال.
ولكن ماهو اللوبي بالضبط؟ اللوبي هو تنظيم للضغط والدفع والتاثير على قرار دولة ما لصالح دولة او منظمة او شركة. ويكون هذا الامر من خلال تزويد صانع القرار السياسي وبالاخص اعضاء مجلس الشيوخ والنواب وموظفي وزارة الخارجية بتصورات ودراسات تخص القضايا المهمة للجهة المؤسسة والممولة للوبي. وفي الغالب تعتمد هذه الدراسات صفة الدراسات الاكاديمية وليس الخطاب السياسي المعهود في الشرق الاوسط. فالدراسة الاكاديمية تعتمد معايير معينة للوصول الى النتائج وليس على اساس الرغبات الفردية . ولذا فمصداقية هذه الدراسات تكون اكبر واعظم من التودد السياسي على اساس الرشوة والدعاوي المعتمدة لدى الممول بانه على حق. فالحق هنا يتمثل بمصالح البلد، البلد المطلوب التاثير على قراره السياسي الا من بعض الاستثناءات التي بمكن ان يتم استغلالها وهو التمترس او الاعتماد على المواثيق الدولية. (( يقع اللوبي في الانظمة السياسية الديقراطية هرميا بين الحكومة والبرلمان ومؤسسات المجتمع المدني وتحديدا بعد الحكومة والبرلمات وقبل مؤسسات المجتمع المدني والاحزاب فهو تنظيميا وتاثيرا فوق مؤسسات المجتمع المدني ودون الحكومة والبرلمان، وذلك يعكس دور واهمية اللوبي.)) واللوبي او جماعات الضغط وبكل ما يحمله من اهداف هو مؤسسة شرعية معترف بها قانونا في الدول الديمقراطية، وليس تنظيما سريا مكروها ومعزول ويعتمد على المؤامرات والدسائس، كما اشاعت عنه الثقافة السياسية في الشرق الاوسط.
شعبنا الكلداني السرياني الاشوري، يمتلك جالية تقارب النصف مليون فرد في الولايات المتحدة الامريكية، ويدرك ابناء شعبنا انهم اقتلعوا من ارضهم ومن وطنهم ومن ممتلكاتهم، واخوتهم في الوطن تم الاعتداء عليهم وتم حرق قراهم ومساكنهم واماكن عبادتهم في زمن صدام واستمر هذا التعرض لما بعد سقوط النظام السابق ولحد الان، لا بل ان هناك تغاضي عن الاعتراف بحقوقهم وتغاضي عن الاعتداءات التي تقترف بحقهم، فكل المسؤولين يمكنهم ان يسمعوننا الكليشة الاعتيادية بان المسيحيين التسمية المفضلة لشعبنا لدى هؤلاء المسؤولين، هم من الاقوام الاصيلة للعراق وهم جزء مسالم من التكوين العراقي ولا يمكنهم تصور العراق دون مسيحية، الا ان استمرار التعرض للمسيحيين ودفعهم للهجرة وبالتالي للذوبان في المهاجر مستمر ومرحب به سرا. اذا كما يقول المثل لا يحك جلدك الا ظفرك. نعم يمكن الاعتماد على الحلفاء في الوطن، ولكن للحلفاء مصالح يجب مراعاتها لكي يمكن الاعتماد على تحالفهم وهو منطق السياسة، ومن هنا فشعبنا وعوامل قوته وتاثيره وارتباطاته يجب ان تكون كلها لخدمة الهدف. اي ان اللوبي في الوقت الذي هو عامل ضغط وتاثير على الدول صاحبة القرار، يمكن ان يكون عامل مساعد في خلق التحالف الوطني لتحقيق اهدافنا القومية ، فالمهم حسن استغلال واخراج.
كانت هناك غالبية من ابناء شعبنا في زمن الطاغية تسكت عن ممارساته وافعاله اما خوفا او مسايرة او لمصالح ترتبط به، ولعبت مؤسسات كبيرة دورا هاما في هذا السكوت وهذا الصمت، لا بل ان بعض مؤسسات شعبنا ساهمت او عملت على تعريب شعبنا وتجريده من هويته القومية، ولذا فقد كان اغلب ابناء شعبنا مغتربين وغير متفاعلين مع ما اقترفه نظام صدام الدموي من الانتهاكات الكبيرة بحق شعبنا وخصوصا تدميره اماكن العبادة ذات التاريخ الطويل والتي تعني لشعبنا الكثير. كما ان هذه المؤسسات صمتت على تجاوزات النظام على اراضي قرى شعبنا وعن لحسه لما قال انه حقوق ثقافية للناطقين بالسريانية ورضت بهذه العملية وصمتت عليها راضية بان يفرض علينا او على جزء كبيرمن التعريب القسري.
اليوم وبعد زوال نظام الطاغية والمخاوف من ممارساته والتحول الكبير في العراق، بات مطلوبا ان نرتقي بوعينا السياسي الى مصاف المرحلة ،ونعمل كل جهدنا من اجل استخلاص حقوق شعبنا. وبالرغم من ان التوجهات السياسية او بعضها كان يعمل في هذا الاتجاه، والبعض الاخر حاول مخطئا ان يفرض نفسه ورؤيته اساسا للفعل القومي، الا انه كان من المفترض ان يكون الوعي القومي لدى شعبنا الكلداني السرياني الاشوري وقياداته اكثر تجذرا وان يكون هناك ادراك تام ان استلام طرف ما قيادة اللوبي وتوجيهه بما يتوافق مع سياسة هذا الطرف سيكون اللوبي ليس لصالح شعبنا بل لصالح الحزب كما هو جاري في اللوبي الذي يستلم دعمه من اتحاد الجمعيات الاشورية في اميركا ويسير بحسب سياسة الحركة هناك، ولتوضيح ذلك نذكر لكم هذه الممارسة، فعند التقاء مسوؤل هذا الطرف السياسي ببعض اعضاء الكونكرس الامريكي صرح لهم ان المسؤولين السياسين العراقيين يتوجسون من ذكر كلمة الحكم الذاتي ولذا فرجاء لا تذكروا ذلك، وعند لقاءه ببعض اطراف شعبنا نرجو ان لا تذكروا كلمة الحكم الذاتي فالكونكرس غير مؤيد لذلك، اي ان هذا السياسي اللعوب لعب على شعبه لعبة خبيثة لاجل تحقيق اجدندته الشخصية ليس الا.
اللوبي يمكن ان يكون حزبيا وهذا لا غبار عليه، لانه معروف باهدافه وتوجهاته ويستلم تمويلة من الحزب، ولكن ان يستلم اللوبي تمويلة من اتحاد الموسسات الاشورية في اميركا ويعمل لصالح حزب واحد وسياسة هذا الحزب، فهذه جريمة بحق شعبنا، لان اتحاد الاندية يمثل مؤسسة قومية تضم مختلف التوجهات السياسية لشعبنا، وان قيام قيادة هذه المؤسسة بدعم هذا اللوبي، يعتبر بحق سرقة لاموال شعبنا لصالح تنظيم سياسي لم يعد يحمل من الاهداف القومية الا الاسم.
اليوم مطلوب ان يكون لنا حقا لوبي لشعبنا ومدعوم من كل احزابنا السياسية واتحادات مؤسسات شعبنا، لكي يعبر عن تطلعاته المشروعة، ليس من خلال الشعارات،بل من خلال تقديم دراسات تدعم هذه الحقوق ومن خلال توافق تمتعنا بحقوقنا مع الاتفاقيات الدولية والقانون الدولي، لوبي يزيد من اوراق شعبنا الايجابية وليس لوبيا لضرب توجهات واهداف مشروعة لشعبنا!!.
- كانون الثاني 2009
لا أعتقد ان هنالك ظاهرة استحوذت على الاهتمام خلال السنوات الاخيرة مثل ظاهرة العولمة. فككل ظاهرة لها من المؤيدين والمعارضين، وكل يدلو بدلوه في هذا النقاش المستعر، الممتد منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، فما هي هذه الظاهرة؟ اعني العولمة.
العولمة ظاهرة اقتصادية اجتماعية ثقافية. اعقبت مرحلة الدول القومية. أي هي ظاهرة ما بعد قومية. ولكنها بالطبع ليست بالبروليتارية. فمحركها الاساس التجارة والشركات الكبرى العابرة للقارات. ولكن ككل ظاهرة تترك بصماتها على المسار الانساني. فللعولمة مظاهر اجتماعية وثقافية تواكبها او هي نتيجة لها. ومن هذه المظاهر كل الاعمال الثقافية التي صدرت لتأيد هذه الظاهرة او لرفضها.
يمكن القول ان العولمة ظاهرة جديدة لانها تبحث وتقام لها المؤتمرات وتنشر باسمها كتب وتؤسس لها مؤسسات حديثا،. ولكن من باب اخر يمكن اعتبار العولمة ملازمة للانسان منذ الخليقة. فالانسان الاول كان عالمه محدودا بما يعرفه من العالم ويمكن القول انه قد لا يكون اكبر من قرية وما يحيط بها من الجبال والسهول والوديان التي ارتادها لاجل الصيد. ولكن بمجرد ظهور حاجة الانسان لانسان اخر، لسبب الحصول على مستلزمات جديدة، عنى ذلك، ان الانسان قد خرج من قوقعته الذاتية، وبات يطلب التشارك مع انسان اخر لتبادل المنافع. كأن يتم تبادل لحم طريدة بالة حادة. ان هذه الظاهرة تترك بصماتها على الطرفين اجتماعيا وثقافيا، فاجتماعيا الطرفان ارتبطا ببعضهم البعض بمصلحة مشتركة وهي الرغبة في تبادل المنافع، من هنا سيزداد هذا الترابط ليتحول الى ترابط اسري وتتحقق حالات التزاوج وتبنى اسر وتكبر لتصبح قبائل وعشائر. أما من الناحية الثقافية فالشخصان يصبحان بحاجة الى وسيلة تفاهم مشتركة ومن هنا تتولد الحاجة الى اللغة التي قد تكون اول الامر اشارة يديوية ومن ثم صوتية لتتحول الى اصوات مفهومة وكل صوت له دلالة معينة لدى الطرفين. ومن هنا تتوالد الشعوب، ومن هذه العلاقة بين هذين الشخصين تتطور المعارف والمدارك، فحتما ان لكل طرف منهما نوع معين من المعلومات التي اكتسبها جراء معيشته باسلوب او في عائلة او موقع مختلف عن الاخر وهنا يتم نقل هذه الخبرات الى الطرف الاخر وبذا تتكون ثقافة مشتركة.
هذا التصور المبسط هو بداية العولمة، فكل شخص من هذين الشخصين كان له عالمه الخاص وعندما اندمجا صار لهما عالم اخر بخبرات وثقافة وقدرات مختلفة، ومنهما تكونت كما قلنا القرى والقبائل والعشائر. وفي المجتمع العشائري كانت هناك عشار مختصة بنوع معين من الاعمال. ففي شعبنا الاشوري مثلا كان اختصاص الكيرامون بحياكة الملابس، والبازيين البناء والحدادة وهكذا. وكانت هذه العشائر تتبادل هذه السلع وتقوم بينهما علاقات اجتماعية، من تزاوج والسكن المشترك، فتتكون بينهم اللغة المشتركة او اللهجة المشتركة. واللغة هي نتاج التطورات العلمية والثقافية والاكتشافات بكل انواعها. فليس معقولا ان نسمي شيئا باسم ثلاجة، ما لم نخترع شئ يقوم بمقام هذه الالة اي ان يحفظ الاطعمة والماء بحالة باردة. وليس معقولا ان نسمي شيئا بحرا ونحن لم نشاهد البحر او نسمع او نقراء عنه.
بتوسع حاجات الانسان وبتوسع طموحاته للسيطرة والاكتشاف والامتلاك توسعت مداركه ومعلوماته وتغيرت علاقاته الاجتماعية والسياسية والثقافية. فالانسان الامي الان يمكن ان يكون اكثرا علما من علماء القرن الرابع عشر مثلا. لان هذا الانسان الامي يتلقى معارف كثيرة من خلال التلفزيون والراديو والاصدقاء. وكمثال فان انتشار وباء مثل الكوليرا ما كان يمكن لانسان حتى المتعلم ان يقاومه في القرن الرابع عشر. ولكن انتشار مثل هذا الوباء في بغداد في منتصف ستينات القرن الماضي جعل والدتي وهي امراءة امية تقدم على سلق كل الخضروات لا بل قشر حتى الطماطة وغلي الماء قبل تقديمها لنا. اي انها تمكنت بما اكتسبته من المعارف من جيرانها ومن ما كانت تنقله الاذاعة من تطبيق بعض الخطوات التي اعتقدت انها تقينا من الوباء. وبالفعل ان اتخاذ الاجراءات كفيل بالحد من انتشار الامراض. اذا الانسان يمشي خطى سريعة نحو الاختلاط والتمازج والتفاعل لان الانسان محكوم بالبحث عن كل جديد.
كانت مرحلة اقامة الدول هي احدى المراحل الاساسية في تطور العولمة. ففي الوقت الذي كانت الدولة المدينة مكتفية ذاتيا بما تستحصله من الموارد من ابناء المدينة. إلا أن الطموح والرغبة للتملك واظهار القوة، دفعت بعض المدن للتوسع والاستيلاء على المدن الاخرى وضمها تحت سلطتها. ومن ثم قامت الدول على اساس الظم لاسباب اقتصادية أو لمجرد التوسع لاجل التفاخر. لأن هذه الدول في هذه المرحلة لم تحاول فرض ايديولوجيات معينة على البلدان الملحقة بهم. بل ترك لهذه المقاطعات حرية العبادة والتكلم بلغاتها، ولكنها اشترطت دفع الجزية او تقديم الهدايا. لابل ان الكثير من الدول كانت تضم الهة المقاطعات المستولي عليها الى الهتها وتضعها في معابدها.
في كل هذه المراحل تطور الفكر الانساني وزادت الاكتشافات وانتشر التعليم، وخصوصا بعد اختراع الابجدية التي سهلت الكتابة والقراءة، ومن ثم تدوين المعلومات الجديدة. مما سهل عملية تراكم الخبرة لتحقيق انجازات جديدة. وبعد ظهور الاديان وقيام الدول على اساس الدين الامبراطورية الرومانية بعد القرن الرابع الميلادي، والاسلامية بعد القرن السابع، ظهرت الدولة الايديولوجية،. اي التي ليس غايتها الفتح لاسباب اقتصادية او لاظهار القوة بل اضيف سبباً آخر ولكنه هذه المرة سبباً لاراقة المزيد من الدماء والاكثار منها، الا وهو فرض الدين على المقاطعات المستولي عليها تحت طائلة الأبادة أو الأستعباد التام او فرض ضرائب ثقيلة على اهالي البلدان المستولي عليها. الا انه ورغم هذه الانتكاسة في المسار السياسي إلا أن مسار العولمة والتلاقي وتبادل الخبرات استمر. فالعرب الذين حركهم الهاجس الديني ونشر معتقدهم في العالم والذين ما كانوا يمتلكون اي علوم غير الغزو وقول الشعر. استفادوا من اختلاطهم بالشعوب التي استولوا على اراضيهم مثل السريان (الاشوريين والكلدان) في العراق وسوريا. حيث استفادوا من علومهم ومدارسهم والمامهم بلغات عديدة. فاخذوا منها الكثير ونقلوها عبر الاندلس الى اوربا التي لم تضعها في الثلاجة وتعتبرها نهاية العلوم بل درستها ونقحتها واضافت عليها.
ومنذ القديس توما الاكويني تلاحظ حركة التطوير في اوربا وتتالى ظهور العلماء والكتاب والشعراء والفلاسفة، ومع اكتشاف اميركا وانتقال ثروات كبيرة الى اوربا، والتطور الصناعي بداءت بالظهور طبقة جديدة وهي البرجوازية او الطبقة الوسطى وافول نجم طبقة اخرى الا وهي طبقة الاقطاعية من اصحاب الاراضي والمقاطعات الشبه المستقلة.
وهنا ظهرت حاجة الى سياسة جديدة، لان الدول هضمت التغييرات الأجتماعية والثقافية. الجديدة فظهرت الدول القومية الملائمة لتطلعات الطبقة الوسطى وثقافتها. وبرغم ان الدول القومية وضعت حدودا صارمة وفرضت قيودا شديدة للتبادل التجاري للحفاظ على مصالحها،. الا انه في نفس الاوان ظهرت دول اخرى لا تتعامل بهذه المقاييس، بل بالانفتاح وتم بنائها على المهاجرين والقيم الليبرالية الاجتماعية والمواطنة والحريات التجارية ونعني بها الولايات المتحدة الامريكية،. كانت الدول الاوربية والتي امتلكت المستعمرات الكبيرة مكتفية بمستعمراتها لتصريف بضاعتها. الا ان التطورات التي حدثت في القرن العشرين ادت الى فقدانها لهذه المستعمرات،. فاستعرت المنافسة على الاسواق لتصريف المنتوجات. وفي كل هذه الظروف لم يتوقف التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي. لان بات التبادل يحدث في كل الامور وصار اسهل، لان وسائل المواصلات والاتصالات جعلت من العالم قرية صغيرة فكل ما يحدث في اقاصي الارض يتم العلم به فورا في كل المعمورة وهكذا عدنا الى القرية الواحدة التي كان كل فرد يعرف الاخر ويعلم ما يحدث فيها.
اذا العولمة التي يحاول البعض اعتبارها امرا جديدا هي ليست كذلك بالمطلق، بل الجديد فيها مؤسساتها وتقبل الدول لها والتبشير بها،. كما انها من الحتميات التي لا بد منها لعدم ايقاف مسار تطور الانسانية. وهي لا تكتفي بالنتائج الاقتصادية، بل ان تجلياتها السياسية والاجتماعية والثقافية بداءت بالظهور منذ امد بعيد نسبيا. فالهجرة وانتشار ثقافات معينة ولغات معينة في العالم افرز، اقرار مؤسسات عالمية مثل الامم المتحدة وهيئاتها التي هي مؤسسات فوق وطنية وكذالك قوانينها التي هي قوانيين انسانية غير تمييزية، وخصوصا القوانين والمعاهدات الدولية باستثناء قوانين الصادرة عن مجلس الامن التي هي قوانيين تعبر عن ميزان القوى ولكنها تستند الى ميثاق الامم المتحدة.
ولعل اجل مظاهر العولمة في المجال السياسي هو كسر او تجاوز ما اصطلح على تسميته بسيادة الدول على مواطنيها وشعوبها، الذي ساد من القرن السابع عشر. فالسيادة لم تعد امرا مطلقا بل يجب ان تتوافق مع معايير معينة معروفة وكل الدول او اغلبها موقع على هذه المعايير.فاذا لم تكن تعمل بها الدول من قبل، لاسباب معروفة فالوقت حان لبدء فرضها تدريجيا على الجميع، لكي يبقى الانسان هو السيد وكرامته هي الاعلى.
11 كانون الثاني 2006
الـ(أنا) و الـ(نحن)
هنالك سمة مشتركة بين المجتمع العشائري والمجتمع المسير من قبل الأنظمة الشمولية. وهذه السمة هي ضمور الـ(أنا) مقابل الـ(نحن)،. وكلنا ننحدر من مجتمعات عشائرية، بعضنا انفك روابطه بها، والاخر لا يزال شديد الالتصاق بها والقيم التي تمثلها. وكلنا عاش ردحا من الزمن تحت ظل انظمة شمولية، وبعضنا لايزال يئن من مثل هذه الانظمة التي تحكم برقاب الملايين، ولانزال نستعمل كصفة مرذولة في لغتنا اليومية او في خطابنا السياسي كلمة ))الانانية)) و((ܐܢܝܘܬܐ)) وهي من الـ(انا) العربية والثانية من ((انا)) السريانية. وهي هنا بمعنى العمل من اجل المصالح الذاتية، الذي لا يضع اي اعتبار للاخرين وحقوقهم. وفي اللغات الاوربية تستعمل كلمة قريبة لهذا المعنى وتعريبها النرجسية من نرسيس اليوناني الذي كان شديد الاعجاب بذاته، الا انها اقرب الى وصف حالة نفسية الفرد مما هي حالة الرغبة في الاستحواذ على كل شئ. والواقع ان هذه الصفة التي نرذلها ونعتبرها كمسبة يجب الرد عليها بما يقابلها او اكثر. هي الصفة الاكثر انتشارا في ممارساتنا اليومية. فالانانية تظهر في التكالب على الثروات وبشكل يتجاوز كل قانون في اكتسابها. او في قولنا الشاطر عوافي. ولكن هذه الانانية نخفيها وبشكل يصل الى حد خداع النفس، من خلال قولنا اننا مجتمع يعرف التكاتف والفرد يضحي من اجل المجموع في حالة من نفاق الذات والنرجسية المفرطة.
وترانا نتغني ليلا نهارا بكوننا صفا واحدا موحدا ومتوحدا مقاتلا ومستسلما خلف القائد الفلتة،. مجتمع يدرك ان الـ( انا) التي يطمرها بالكلام المنمق والشعارات الجوفاء،. يمارسها المقتدر بكفاءة يحسد عليها،. كفاءة لا تبالي باي عرف او تكاتف او قرابة او مسؤولية او حق انسان. أما الحديث عن التكاتف الاجتماعي فهذا نصيب المساكين الذين ليس لديهم غيرها، لكي يستمروا في العيش ولو كفافا.
الـ(نحن) التي نعتنقها، ورثناها من المجتمع العشائري الابوي. ذلك المجتمع الذي كان يرى في الاخر عدو محتمل. فعلى العشيرة التكاتف لكي تقهره،. لكي لا ينافسها على المغانم والمراعي والسبايا. وان تكون كلمة واحدة وراء طويل العمر شيخ العشيرة، الكل في الواحد، والواحد لاجل الكل، هذا كان التصور. وكان انذاك تصورا معقول ومعتنقه معذور،. فالتصور نابع من واقع اجتماعي يفرض عليهم ممارسته، والا زالوا من الوجود او تحولوا الى عبيد. كما ان افراد العشيرة كانوا يعرفون بعضهم البعض بالاسماء او بالعوائل. وكان هناك ايضا في المجتمع العشائري ميزات، فشيخ العشيرة كان يستشير اعيانها وكان للفرد دوره والجواد الكريم والصنديد البطل (ليس صناديد صدام) والشاعر الفطحل، كان لهم دور وكانت لهم مأثر وصيت. كاسماء فردية وان كانت مرتبطة بالعشيرة.
أما في المجتمعات ذات الأنظمة الشمولية، وبأسم الشعب (المغيب دائما) والطبقة، تم محو الـ(انا) (الفرد)، فكل القابليات والقدرات والحقوق هي للشعب او الطبقة. ولكن الحقيقة كانت للحزب الحاكم أو الأنا الوحيدة القادرة المتمكنة اي القادة الصناديد محبوبي الشعوب او الاخ القائد (بما يذكرنا برواية جورج اوريل 1984). فقائد الشعب ومحبوبه والاخ القائد، لهم عيون مبثوثة حتى في فراش الزوجية للمواطنين. لكي لا ينحرف المواطنين عن طريق الشعب،. واجهزة تقيس نبض الشعب، لحمايته من مرض الافكار الهدامة، مثل اشغال العقل بما لا طاقة له به. وهكذا اندمج الشعب والطبقة مع الانا الكبيرة، المفكرة التي ضحت وتضحي ليل نهار من اجل رخاء وتقدم الشعب، لتحقيق حلم الاجيال في قيام مجتمع جديد يقارع الاستعمار والامبريالية والصهيونية والرجعية والليبرالية واليسارية الطفولية والتروتسكية والانفصالية والقطرية،. وهكذا ترون ان الـ(انا) التي يقول بها الفرد العادي، هي انانية مذمومة وهي من مخلفات عصر الاستعمار والفكر الرجعي ومن ممارسات البرجوازية الصغيرة. فكل انا لكي تثبت وطنيتها وثوريتها يجب ان تذوب في الانا الكبيرة الواعية الجوهرية للسيد القائد الامين العام. وبهذا لم نخسر الـ(انا) الفرد الحر القادر على الابداع المسؤول عن افعالهـ بل فقدنا الـ(نحن) التي تغنينا بها، ولم ندرك إن الـ(نحن) لكي تكون قادرة على الفعل. يجب ان يكون الـ(أنا) حرا فالـ(نحن) هي مجموعة الـ(أنا) وليس العكس.
والسؤال، هل سنعيد الاعتبار لـ(انا) ونمنحها حقها في القول والفعل الحر في اطار قانون تتساوي فيه كل الاناءات؟ أم سنظل نتشدق ونتغني بالـ(نحن) وسيظل البعض يسرقوننا ويسوقوننا نحو الهاوية ونحن لها مستسلمون، لانه ليس فينا انا فاعلة؟
الكوارث الانسانية ورد فعل المجتمع الدولي
تعتبر الكارثة الانسانية التي اصابت دول جنوب آسيا وطالت نتائجها دول عديدة حتى وصلت الى الصومال في شرق افريقيا واحدة من اكبر كوارث القرن العشرين، جراء ثوران الطبيعة. فعدد القتلى المعلن نتيجة الطوفان الذي ضرب الدول المشار اليها، والذي اعقب الزلزال المقدر قوته بتسعة درجات على مقياس ريختر، يقارب الان حوالي المائة واربعون الف نسمة. بالطبع هنالك مخاوف من انتشار الاوبئة الفتاكة، وخصوصا مع ندرة الماء الصافي وتحلل الكثير من الجثث، مما يزيد من المخاوف بحدوث كارثة غير مسبوقة.
عند حدوث مثل هذه الكوارث، تشل الكثير من مؤسسات الدول التي تحدث فيها. وذلك نتيجة طبيعية لبلبلة الفكر واندثار المؤسسات ووفاة الكثير من العاملين فيها. اضافة للخراب الذي يصيب البنية التحتية، من الطرق ووسائل المواصلات. فالدول تحتاج الى مساعدة انسانية لتتجاوزالظروف المحيطة، وبالطبع ان الدول الفقيرة تكون بأمس الحاجة لمثل هذه المساعدات، لانها اساسا لا تتمتع بشبكات واسعة ومتطورة لحالات الطوارئ.
ان الايمان بالحس الانساني، وبأننا مهما اختلفنا دينيا وقوميا ووطنيا ولونا، فاننا من لبشر متساوون. يجب ان يتعاضدوا على فعل الاصوب لهم. فلو كان الذي وقع الان، قد حدث قبل مئة سنة من الان، لكانت الضحايا تفوق الملايين، من الناس الذين لاذنب لهم غير وقوعهم في منطقة او قرب مركز الزلازل. فما راكمته الانسانية من الافكار والتكنولوجيا، يساهم الان في تخطي الحدود بين البشر، ليكونوا متوحدين على الاقل امام الكوارث التي تصيبهم.
ففي الوقت الذي كانت للتكنولجيا بعض السلبيات غير المقصودة، الا ان المخترعات والاكتشافات والتركيبات الكيمياوية، كلها تساهم في الحد من الالم الانساني. لا بل تنقذ الملايين ممن كان مكتوبا عليهم قبل سنوات الموت، لمجرد اصابتهم بالملاريا او الجدري او التيفوئيد او غيرها من الامراض التي اصبحت بفعل التطور والتقدم في حكم المقضي عليها.
ان الحس الانساني الذي يطبع انسان اليوم، والذي يجعل شخص لايعرفنا، ولمجرد سماعه نداء الاستغاثة، يقوم ويسرع للتبرع بمبالغ مالية يصل مجموعها سنويا في بعض الدول المليارات من الدولارات. هذا الحس الانساني، كان نتيجة لتطور نظرة الانسان تجاه اخيه الانسان. جراء اتساع رقعة تأثير الفلسفة الانسانوية، هذه الفلسفة التي غايتها اسعاد الانسان، وتتوجه للجميع بنداء التأخي والمحبة، عابر لكل مشاعر التعصب القومي والجنسي والديني، وبالطبع كان للتكنولجا دور فعال في المساعدة على التطبيق العملي لهذه الافكار الفلسفية.
بالرغم من ان هذه الارض تعج بالالاف من اللغات والاديان ويتحلى الانسان بألوان متعددة وثقافات مختلفة. ولكن لو فكرنا بهذه الكرة الارضية، التي قد لا يكون حجمها بقدر حبة رمل نسبة الى حجم الكون الشاسع والمستمر في التوسع. لو فكرنا بالمخاطر التي تواجهها كرتنا الارضية هذه، من الخروج عن المدار بفعل قوى غامضة او اصطدام بنيزك لا سمح الله. فهل سيكون مصير البعض النجاة والاخرين الضياع؟ وهل هذا المصير سيكون بحسب اللون واللغة والدين؟ ألا نكون كلنا، كل بني البشر ضحايا لكارثة تقضي على الانسانية؟ هل ندرك كم نحن مشتركون، ومصيرنا مترابط، فعلام نصر على الانانية بكل شئ، لماذا نصر على القتل على الهوية، لماذا نريد الغاء الاخر، لماذا نرغب في اذية المقابل؟
ها هي امم العالم تحاول قدر الامكان تخفيف الألم الذين اصابتهم الكارثة الانسانية، متناسين خلافاتهم السياسية وغير السياسية، بالامس القريب كان زلزال بم في ايران، فهرعت دول العالم لتقديم مساعداتها، بدون شروط سياسية او غير سياسية، الخلافات مستمرة ولكن مد يد المساعدة عند الحاجة اليها يكسر آلاف الحواجز التي اقيمت بين بني البشر، بسبب نشر الافكار العنصرية، والتي تفرق في قيمة الانسان، حسب دينه ولونه ولغته واحيانا حتى لهجته.
اذا لو فكرنا حقيقة، لوجدنا كم ان مصيرنا مترابط، وكم الواحد منا بحاجة لاخيه الانسان، فما بال الذين ينشرون القتل في ربوع وطني العراق، ما بالهم يعملون كل شئ للعودة الى ايام عبودية صدام، ما بالهم يخافون الانوار والافكار والالوان، لما لا يمنحون فرصة للتغيير، وكل العراقيين مصرين ليكون تغييرا نحو الاحسن، هلا نرتقي الى انسانية الانسان، الذي يفوق كل الاختلافات؟ العراق هو مهد الحضارات، فهل يمكننا تحويله، مهد نشر الافكار النيرة، والقوانيين الانسانية وهل نتعلم من كوارث الاخرين لنبني وطننا؟. والمجد لله في العلى وعلى الارض السلام وبين البشر المسرة.
بين النص والانسان.. الانحياز للانسان
من سمات الاحزاب السياسية المسماة بالعقائدية، انها تحول فكر او افكار الحزب مهما كانت بساطتها الى نص مقدس غير قابل للنقد واي نقد يوجه لهذه الافكار يعتبر طعنا او كفرا. وعلى هذا المنوال فان زعماء الحزب يتحولون الى اشباه الهة، برغم من تاكيدات الاحزاب العقائدية بكل ميولها انها وزعماؤها هم لخدمة الجماهيرة وتطلعاتها المشروعة في العدالة الاجتماعية او في تحقيق شرع الله. فانه في الحقيقة يتم تسويق اي كلمة تقال من الزعيم وكأنها درة من الدرر واخر فتح في العمل السياسي، ولم يسبق الزعيم في قوله احد، وان كانت اقوال الزعيم تتناقض مع ما قاله بالامس القريب او هذه الاقوال مسروقة من زعيم او مفكر او حتى كاتب اخر.
قبل سنوات قرأت لأحد الأخوة وهو يدعو الى اقامة احزاب اشورية على اسس عقائدية. والعقيدة هي الدين بعينه، اي اقامة احزاب على اسس دينية (بمعنى ان الافكار في الحزب تتحول الى شئ مقدس وتتلى كالصلوات)،. ومن سمات الدين ان الفكر فيه مقدس، لانه منزل أو لأنه قول الله أو وعده لبني البشر. وبالتالي فأن عامة الناس تأخذ هذا الفكر كمسلمات غير قابلة للمناقشة. ما يقوله النص او ما يفسره الكاهن او الشيخ لا يكون قابلا للتشكيك. لان العامة تعتقد ان كرامة رجل الدين من كرامة الله، وان ما يقوله هو قول الله. أي انها لاتفكر ان ما يقوله رجل الدين هو تفسيره لما هو مكتوب، وهذا التفسير خاضع للاهواء والشطط.
طبعا وكالعادة بعض الناس فينا يحاولون تطبيق التجارب التي ثبت فشلها لدى الجميع. فالرأي أعلاه قرأته بعد فشل دول المنظومة الاشتراكية. وبعد ان ظهر ان الدول التي تقودها الاحزاب العقائدية في شرقنا تعيش مرحلة عصيبة وأزمات مستديمة ويحق القول فيها انها في عنق الزجاجة. اي انها تعيش ازمات متتالية لا تدري كيفية الخروج منها الا بالهرب الى الامام والمزيد من العقائدية والاستكانة الى الغيب وما يخبئه ورمي كل الاثقال على الله وما يريده.
بالرغم من كل شعارات الايديولوجيون (العقائديون) الجميلة والبراقة. الا انهم ينتهون الى ما انتهى اليه ستالين وصدام وكيم ايل سونغ وهتلر وغيرهم. حيث يتحول الانسان الى اداة في يد الايديولوجية. وتبقى كل التضحيات مشروعة ومبررة لرفع شأن القضية المقدسة (اية قضية). وبالحقيقة ان هنالك تماهي بين القضية والزعيم، فالتضحيات تكون من اجل استمرارية الزعيم ومغلفة بأسم القضية.
يبقى الانسان هو المغيب الاكبر في ظل الانظمة او الاحزاب العقائدية. فمرة بأسم الطبقة البروليتارية ومرة باسم محاربة الامبريالية والبرجوازية الكبيرة ومرات باسم الامة العربية او الاسلامية. يجب على الانسان ان يؤجل متطلباته وحاجاته لحين الانتصار على الاعداء. ولان الاحزاب والزعماء العقائديون غير معرضين للنقد والتقويم والتصحيح فأن تأجيل متطلبات الناس يستمر لعقود طويلة دون ان تحقق، لا بل ان الموجود يتعرض للتأكل بفعل الزمن وتأثيراته.
تتميز الاحزاب العقائدية في المسائل المطلبية بالتبسيط الساذج وبالتفكر المؤامراتي. صحيح ان لكل علة معلول، ولكل حدث سبب. ولكن في الفكر العقائدي، يكون التفكير لحل علة ما موجه الى جزء من الشعب الذي يتهم بانه سبب المصائب كلها. فمرة الاقطاع واخرى البرجوازية وثالثة عملاء واذناب المستعمر. هذا الفكر يصنع اعدائه من كل من يخالف وبأي مقدار من المغايرة او المخالفة. فالكل يجب ان يتساوا في كل شئ، هذا الشعار الجميل، لا يعني رفع مستوى الطبقات الفقيرة والمعوزة ليضاهي مستوى الطبقات المتوسطة. بل التجربة اثبتت ان هذا الشعار في الانظمة العقائدية يعني خفض متطلبات ونوعية الاحتياجات الكل. ليعم الفقر الجميع ويكون الوضع اسواء من السابق، ويتم تطبيق هذه الشعارات بخبث واستهتار بالاقتصاد ومتطلباته، فيتم زيادة الرواتب مثلا، او زيادة الدعم الاقتصادي للمواد المستهلكة من قبل الفقراء، وبالطبع هذا الدعم سيشمل الكل، ولكن الدعم والرواتب يتدم زيادتهما دون زيادة في دخل المواطن بالحقيقة، ولان مداخيل الدولة ليست في زيادة، فيتم طبع عملة ورقية لا دعم لها ولذا يزداد التضخم، وتتأكل الزيادات التي حدثت. لا بل في الحقيقة يكون الدخل في تناقص. ولكن الفرق بين الانظمة العقائدية والانظمة التي تسيرها المصالح الحقيقية للناس هو انه في الانظمة العقائدية لا يمكن للناس الشكوى او التذمر، لان عاقبة الامر معروفة، ولذا تتراكم الاخطاء لحين تعميم الدمار ولا فائدة من العلاج الا بازالة كل اثار النظام. اما الانظمة التي تسيرها المصالح الحقيقية للناس فأي خلل يتم ابرازه وتسليط الضوء عليه وبالتالي معالجته باقل قدر من الخسائر.
للأحزاب العقائدية نظامها الخاص، فلكونها تؤمن بانها الوحيدة على حق، فانها ترفض تلقائيا اي تنافس لها في مجال ادارة الامور او نشر الافكار. لانها تعتبر ذلك اعتداء على مبرر وجودها، وانتقاصا من الحكمة المطلقة لزعماءها الذي يتحول تدريجيا وبفعل نفس العامل الى الزعيم الاوحد. وهذا النظام بالطبع لا يصلح بتاتا لشعبنا (الاشوري الكلداني السرياني) لان شعبنا لا يحكم نفسه بنفسه. اي انه لا يمتلك وطنا يديره بنفسه، بل هو يحاول المشاركة مع الاخرين لادارة الوطن، وضمن هذه المحاولة يحاول ان يحصل على اكبر قدر من الحقوق، هذه المحاولة المحكومة بعوامل القوة التي يمتكلها شعبنا. ومن ناحية اخرى ان كون احزاب شعبنا تعمل مع احزاب قومية ووطنية ودينية من غير شعبنا، هذا يعني ضرورة اقامة تحالفات حزبية مصلحية تنبع من الرؤية الخاصة بكل حزب للمصالح لادارة شؤون الدولة. وبالتالي وضمن هذه الظروف يستحيل اقامة حزب عقائدي يدير امر الشعب، ضمن المعادلات القائمة. ان هذه الحقائق تجعل من الحزب الذي يريد ان يتسم بأنه حزب عقائدي، يلجأ الى رفع شعارات تدغدغ مشاعر البسطاء، ولكن هذه الشعارات لا تصمد امام أية مسائلة حقيقية، بل هي مخالفة لمنطق السياسة التي يخضع لعوامل القوة والمساومة اي الاخذ بقدر الامكان والقدرات.
ضمن المعادلة اعلاه اعتبر بعض الاحزاب انهم احزاب عقائدية. ولذا كان من الواجب اظهار عقيدة لا يشوبها اي خطاء بحسب اعتقادهم. وتظهرهم بمظهر القوي والمبدئي الذي لا يساوم على عقيدته. فكانت ساحتهم التي يريدون البروز فيها هي ساحة القسم الذي يقر بالتسمية لاشورية من الشعب، ولذا رفعوا شعار الاسم الاشوري المقدس الذي دونه الدماء. وليظهروا مبدئيتهم اكثر اتخذوا اسم اشوريا بالسورث ومن فرط مبدئيتهم فانه لا يهمهم ان انسلخ اكثر من ثلثي شعبنا وصار شعباً شقيقاً (هي ممارسة اصبحت سمة لاحزاب عقائدية ان يتم التضحية بالشعوب على مذبح العقيدة). فالمساومة لديهم مفقودة ومن قوامسيهم محذوفة، ولانهم حزب عقائدي مبدئي فان فرحتهم كانت عظيمة عندما وجدوا الاسم الاشوري مفصولا بواو المعية عن الكلداني في مسودة الدستور العراقي. علما ان الاسم الاشوري والكلداني كانا سيظهران معا ولكن ليمثلا شعبا واحدا وليس شعبان كما يستشف من المسودة الحالية. ولكن الحزب العقائدي لا يمكن ان يمارس دوره كما عهدناه في السلطات المقبورة لاحزاب عقائدية سابقة مثل الاحزاب الشيوعية او القومية العربية مثل حزب البعث المقبور. فتجربة حزب اعتبر نفسه ممثلا وشرعيا ووحيدا لشعبنا لا زالت طرية. فانه لم يضر الا شعبه، وان كان البعض لا يزال يتبعه فان الخوف هو عندما تزول السكرة وتنكشف الأمور. فهذا أيضا كان يدعي انه تنظيم طليعي عقائدي ولا يزال بعض رموزه يستعملون ذلك. اذا الذي ستعمله الاحزاب العقائدية في شعبنا هو لعب دور الكاريكاتير فقط، دعوات وادعات لا تربطها بالواقع الا خيالاتهم.
الاحزاب العقائدية لا تعمل لخدمة الانسان بقدر خدمتها للعقيدة. ولذا ترون الاحزاب الاسلامية تعمل كل جهدها من اجل وضع الانسان في خدمة نشر الاسلام وانتصار الاسلام مهما كانت التضحيات البشرية ومهما كانت الخسائر بالاقتصاد او مهما كان التخلف. لا بل ان المزيد من التخلف مرغوب ليلتصق الناس بالعقيدة كمنقذ وحيد لهم من عاديات الزمن. وسيبقى السؤال الازلي ماذا ستفيد العقيدة لو زال البشر؟ غير مجاب عليه من الاحزاب العقائدية.
7 ايلول 2005
طغيان السياسي السوقي على الثقافة والمثقف
عندما كنت ملتحقا بالكفاح المسلح في الثمانينات من القرن الماضي، وفي جدال حول الثقافة والمثقف، قال شخص مسلح اذا ضربت بقلمك على رأس العدو وانا اضربه بهذه البندقية، فمن يقتله؟ هذا الالتباس لا يشمل هذا المسلح الأمي، بل يشمل بعض المتعلمين وخريجي الجامعات، وحتى حملة الشهادات العليا. ولكن قد لا يكون الالتباس بهذه السوقية، بل يطرح وماذا يمكن عمله بالثقافة، ماهو الشئ العملي الذي تنتجه الثقافة؟ قد تلاحظون شرعية في الاسئلة، لانها تبدوا منطقية للبعض. الا ان مطلق هذه الاسئلة يبدى جهله التام بطبيعة الثقافة والمنتوج الذي تقدمه للناس. نعم يمكن للناس العيش بدون ثقافة، ولكن اي نوع من العيش؟ نعم الثقافة لا تشبع جائعا، ولكن هذا الجائع سيبقى متخلفا ويفكر بالأكل فقط بدون الثقافة. وحتى نوعية وطريقة الاكل يمكن ان تظل كما هي بدون المنتوج الثقافي. الثقافة هي التي تمنحنا وسيلة العيش ضمن مجتمع والتكيف معه. وهذه الثقافة في حالة تطور، وهي تسبق في تطورها القانون والعادات المكتسبة، التي تخضع في النهاية لمنطق الثقافة.
والمثقف هو ذالك الانسان الذي يعيش قلقا دائميا، يعيش عدم رضا، فالرضا هو عدو وقاتل المثقف الاول. فالمثقف يتعامل مع قيم وتطورها وتساميها. بعكس السياسي مثلا الذي يتعامل بالوقائع، المثقف لا يقدم منتوجا لا يبنى المساكن ولا يفتتح الطرق، ولكنه يفتح الطرق الى عملية البناء الشاملة، لانه يبني الانسان. والمثقف بالنهاية يتعامل مع البناء الداخلي او الفكري للانسان. كلما ارتقت المجتمعات، وهذا يحدث بمعول الثقافة والمثقفين، كلما كانت قيمة المثقف عالية في المجتمع. وفي مجتمعاتنا الشرق اوسطية، كان للمثقف دور يشار له بالبنان في الثلاثينيات من القرن الماضي، والى بداية السبعينيات منه. الا ان حدوث الانقلابات الثورية، احجم دور المثقفين قبل ان يتطور المجتمع، وتقوي ركائز الثقافة. فالحكام الجدد والمستعجلون لتحقيق احلامهم. اشبعوا الشعوب شعارات، وملاؤا الجيوب نقوداً لا قيمة لها، وخاضوا حروبا دمرت بلدانهم وهم منتصرون، ووضعت اسباب الانتكاسات على المشاجب الحاضرة والدائمة، الامبريالية والصهيونية وبعضهم زاد الرجعية. ولان النقد احد مهام وادواة الثقافة، مغيب بفعل تغييب الثقافة نفسها. فالتبرير وايجاد مشاجب للتنصل من المسؤولية صار امرا يسيرا. وهكذا وفي غمضة عين، اصبحت الثقافة اسيرة السياسي، وقبلا كانت تقوده. وفجأة اصبح المثقف هو ذالك الانسان الجالس في برجه العاجي، والذي لا يعرف نبض الجماهير. ولغياب دور المثقف والثقافة، تحولت الجماهير الى رعاع لا تتوقف عن الصراخ، المهم الصراخ وليس الهدف، فبالصراخ يتم تحقيق كل الاهداف. لقد سحبت الثقافة والمثقف من اذنيهما وادخلا قمقما، ان خرجا منه فهما غريبان، اتيان من عالم اخر، او لنقل كون اخر.
من طبيعة الثقافة التسامح، لانها تتعامل مع الفكر، والفكر يتطلب الحوار، والحوار يتطلب الاخر المختلف. الثقافة الحقيقية داعية للسلام وداعمة له، لانها تنتشر وتتطور به. في الحروب تكون منزوية، مكروه ومرذولة، لانها تشي بالضعف، لانها لا تفكر بلغة السلاح، بل لا تتوافق معه. وقد شاهدنا المثقف العراقي يتحول في العراق الى بائع بضاعة مغشوشة. والثقافة تتحول الى كلمات تمجيد قاتل وسارق، هذا لم يكن مثقفا وتلك ولم تكن ثقافة، بل مداحي السلطان، من اجل المال والجاه انهم مرتزقة، شهود زور، شاهدوا عملية ذبح العراق بشرا وثقافة وتعليما ووطنا، ولكن يبقى ان نقول ان اغلب مداحي السلطان، كانوا مضطريين في عملهم، فالسلطة لا ترحم، لاي زلة لسان.
وما يحدث اليوم في العراق، والذي لا يتسق مع اي منطق، هو نتيجة لغياب الثقافة والمثقفيين الحقيقين، وانزوائهم خلف السياسي. او بيع دورهم للسياسي السوقي، فحضارة العراق ومستوى التعليم والغنى المادي، كان من المفروض ان تكون عاملا لعدم ممارسة ما نشاهده من البشاعة. كالذبح والقتل المجاني وسيطرة الرعاع على المشهد، بل وقيام بعض وسائل الاعلام ودون خجل ببث ما يصدر عن هذه الحفنة من نتاج (ثقافة) العنف الصدامية، او نتاج سياسة صدام او نتاج هزيمة حضارية ارادت مناطحة العالم وتمدنه بالعنف العاري.
ان طغيان ما سمي بالسياسة (لانه حتى السياسة العقلانية لاتكون نتائجها بهذه البشاعة والهزائم المدوية) اسكت كل الاصوات التي تطرح الاسئلة المحورية في مراحل الازمات. ناهيك عن الاجابة على هذه الاسئلة، مما سبب حالة بوار فكري (ان جاز التعبير)، فكل الامور كانت تسير باوامر سلطة عليا لا تفقه بالثقافة والمثقفين، انها تراهم مجموعة من السفسطائيين، الذين لا فائدة منهم غير النقاشات التي لا تنتهي.
واليوم ومع عظم المأساة التي تعيشها منطقتنتا، الشرق اوسطية، هل يمكن ان يأخذ المثقف دوره الريادي في طرح الاسئلة، واعطاء الاجوبة المختلفة والمتعددة للسؤال الواحد، لكي يغتني المجتمع، اي ان لا تسيطر الايديولوجية عليه، فالايديولوجية لها جواب واحد لكل سؤال، اما المثقفون فقد يكون لهم اجوبة بقدر عددهم، والمهم التعايش بين هذا العدد الوافر من الاجوبة، لكي يتمكن المجتمع من الاختيار السليم، لكي يتمكن المجتمع من المرور بالتجارب الواحدة تلو الاخرى، هذه التجارب التي تخلق الانسان الواعي والواثق من نفسه، ولكي تتكون قاعدة واسعة من الناس القادرين على التعايش الطبيعي بالرغم من اختلافاتهم الجنسية والقومية والدينية او اختلافهم باللون؟ اما ان الاوان لكي لا نقيس كل شئ بمقياس اليقين الديني؟ وحتى اليقين الديني تعرض للتغيير، بفعل التطورات العلمية الهائلة، فقديما كان من اليقين ان الارض مركز الكون، واليوم ندرك ان الارض تدور حول الشمس، وانها واحدة من البلايين البلايين من الكواكب ضمن بلايين المجرات ضمن الكون اللامتناهي، فاليقين في الدين هو الله خالق كل شئ والقييم الاخلاقية (مثل لاتقتل لا تسرق، لا تكذب الخ) والباقي خاضع للمتغيرات.
عندما يهرب المواطنون من بلدهم باتجاه البلدان الاخرى طالبين الامان لأنفسهم ولأبنائهم، عندما يلتجأ المواطنين ببلدان اجنبية لكي يعيشوا بالمستوى الانساني اللائق، عندما يحتمي المواطنين ببلد اخر من جور حكامهم وابناء حكامهم، عندما تكون الثقة معدومة بين المواطنين وسلطات بلادهم، وثقة المواطنون في قضاء بلدهم وكل الاجهزة الامنية معدومة والشكوك تحيط بكل المسؤولين وتعيش في بلدهم طبقة محدودوة العدد ولكنها تمتلك كل شئ بالرغم من انها تدعي الاشتراكية وتؤمن بالحرية وتقول انها ديمقراطية وتطبق الشريعة السماوية، وبقية الشعب تحت خط الفقر، عندما يكون مطلوبا من المواطن اداء واجب اظهار الطاعة ونفاق المسؤولين ليل نهار، عندها يحق لنا ان نقول ان الدولة لم تعد حاجة ضرورية، بل عالة على كاهل الشعب، وليت الاستعمار يعود عسى ولعل ينصف الشعب من ظالميه وحراس سجنه الكبير المسمي الوطن.
لا اعتقد ان الوصف اعلاه بغريب على من يقراء هذه الكلمات، فهذا الوصف وحسب علمي ينطبق على اغلب الدول العربية وحكوماتها وشعوبها. ولكن وصف حالة البلدان ليس موقفا، بل هو وصف حيادي او محاولة لرسم صورة بالكلمات، ان الموقف الصحيح هو ادراك الاسباب التي ادت الى هذه النتيجة الكئيبة واللامعقولة. فليس بخاف ان هذه البلدان تمتلك ثروات هائلة كان يجب ان تكون سبب لبناء قاعدة اقتصادية وعلمية متطورة ،ومجتمع مرفه خالي من الفقر ودخل معقول يجعل الانسان يعيش بغير عوز الذي يلازم غالبية السكان.
لعل أهم مؤثر يقود نحو التطور هو الفكر، والفكر لكي يكون مؤثرا يجب أن يكون حرا ولكي ينتج جديدا فيجب ان ينتقد القديم او يفكك القديم ويحاول تحليله الى عناصره واستخراج ما يعيق او لا يلائم والتطورات التي سارتها الانسانية. وهنا نجد ان الفكر في هذه البلدان محاط بالف تابو وتابو. فاغلب الامور مقدسة ولا يمكن مساسها، ولان الدين تحول الى حاضنة لكل الأمور والممارسات الثقافية والاجتماعية والسياسية فكل شئ تقريبا محدد في الدين والخروج عنه هو الخروج عن المقدس. فكيف بنقده وتحليله للاتيان بالبديل الملائم للعصر والمتوافق مع ما نراه من الحالة الحضارية التي يعيشها العالم الان؟
بالرغم من ان اليابان وكوريا الجنوبية والصين والهند تمتلك موروثا حضاريا كبيرا، وتمتلك اديانا كبرى يقدر عدد معتنقيها بمئات الملايين. الا ان هذه الدول لم تقطع صلتها بماضيها ابدا، وبرغم ذلك تمكنت من مصالحة هذا الماضي مع العصر وعلومه وادواته النقدية. اي ان هذه الدول اخذت بالوسائل التي رأت انها المسبب للتطور ومنها الانفتاح الفكري والحريات الفردية. ولذا نرى ان هذه الدول تواكب الغرب في تقدمه وتطوره في شتى مجالات الحياة. والمأمول ان تأخذ الصين موقعها في هذا الاصطفاف الى جانب الدول التي تحترم الانسان وحقوقه ولكنها لظروفها من ناحية تعدد الاثنيات والفقر والارث الدكتاتوري الطويل ولموقعها الفريد في قلب اسيا تمنح الفرصة النادرة لكي يكون تطورها في مجالات الحريات بوتيرة تساعدها على هضم شعبها الحريات هذه.
ما يحدث لدينا هو تغييب الفكر النقدي كليا. وهذا التغييب هو لصالح الفئات الحاكمة والمتحالفة مع الاصوليات الدينية والتي قد لاتمارس الارهاب بشكله المعروف، الا انها تمارس ارهابا اقوى من خلال غلق كل الابواب التي يمكن لنا الولوج منها الى التقدم والتطور بحجة مخالفتها للمعلوم من الدين.
لقد وصل هذا التحالف في بعض البلدان الى حد ان الدولة تنازلت عن صلاحياتها الدستورية لكي تمارسها المؤسسات الدينية. فالمحاكم الشرعية هي التي تحصم في كل القضايا التي تحدث في الكثير من الدول. ولا يخفي ان هذه المحاكم تستند في احكامها على الشريعة الاسلامية التي لم يجر تحديث فيها منذ اكثر من الف سنة. حتى لو اقرينا انه يحق الاجتهاد في بعض المذاهب الا ان هذا الاجتهاد يظل في الاطار الواحد المحدد بالخوف من الكفر ان تم الخروج منه. ويمكننا الاتيان بامثلة كثيرة تثبت هذا التوجه ليس لدى الدول التي تعتبر القرآن دستورها بل للدول التي تمتلك دستورا مقرا من قبل الشعب.
ان تغييب الفكر النقدي والتحالف غير المعلن بين الفئة الحاكمة والاصولية الدينية. خنق المجتمع وجفف منابع الأبداع لديه، وهذا هو المراد فلكي تحكم وتطاع فما عليك الا ان تزيد في جرعة تجهيل الشعب ونشر الخرافة والتعلق بالاخرة وتمتلك عصى غليظة يفكر فيها الف مرة كل من يريد الخروج من الدوائر التي تحيطه والقيود التي تكبله.
ما حدث بعد ان تمكن هذا التحالف الخبيث من السيطرة والاستشراء. هو انقلاب الدوائر فبعد ان تم ضخ كم هائل من التلقين الديني الغيبي وتم السيطرة على المجتمع باسلمته واقناعه بانه الحل الوحيد لازماته التي لا تنهتي. تحول المجتمع الى حالة فريدة تخالف كل ماهو معتاد. فصار مجتمعا يرفض الحريات الفردية لانها مقرونة بنظره بالانحلال الخلقي وترك الايمان واعتناق الالحاد ان صح التعبير. وهذه هي الحالة المثلى للفئات الحاكمة لتسويق نفسها، فانها تقول وبملء الفم وبكل صراحة للدول التي تضعط باتجاه ادخال تعديلات قانونية لبنية الدولة البوليسية القمعية لكي تتوافق مع المعايير الانسانية. ان تحقيق ذلك يعني استلام الاسلاميين السلطة. اي تخويف الدول بان البديل عنهم هو كارثة على الدول الضاغطة، لانهم حكام الدول يسوقون الاسلام كحالة عدائية لا تتعايش مع احد.
لقد تم سد كل الافق للتغيير في هذه الدول، ولم يبق أمام القوى التي تمكنت من ان تحصن نفسها من المد السلفي الاصولي بهروبها الى المنافي، الا الاستعانة بقوى دولية لكي تساعدها في مهمتها. فالوطن عندما يتحول الى مزرعة مملوكة لفئة او لعائلة معينة لن يبقى له ذاك الاوج او القدسية التي حاولوا اشاعتها في الاعلام والتي تكذبها يوميا العشرات من التصرفات والممارسات الدالة، ان الحكام مستعدون للتنازل عن الكثير الكثير من اجل استمرار بقائهم على كرسي الحكم.
وهذا ما نراه جليا في مصر والعراق وسوريا وفلسطين، ولاجل استمرار الفئات الحاكمة يتم التضحية بمجتمعات وبلدان كاملة ويصح فينا القول بحق ان هذه البلدان هي الرجل المريض لهذا العصر الذي ينتظر الكل الاعلان الرسمي بوفاته. او بالطلب الجماعي من كل القوى الفاعلة في هذه البلدان انها لا تزال قاصرة عن ادارة مثل هذه المؤسسة المسماة الدولة ولذا فتطلب انتدابا يعلمها هذه الادارة عسى ولعل.
4 كانون الثاني 2006